وليد جابر أبورايد
ماجستير بعلم الآثار الشرقية
إلى الشرق من قرية أم رواق، (بحوالي 8 كم)، وعلى الضفة اليسرى لوادي الشام، فوق منحدر صخري إنهدامي شديد الانحدار، نهضت تلك المساكن البازلتية المتلاصقة المبنية بالحجر البازلتي المنحوت أو الموجه التي شكلت حارات تفصل بينها أزقة ضيقة تخترق الجرف الصخري الطبيعي، الذي شكّل منذ القديم عامل الحماية والتحصين الرئيسي الذي اختاره الإنسان كموقع طبيعي يسهل الدفاع عنه.
تكثر في الموقع الملاجيء الطبيعية (مغاور وكهوف) قصدها الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ كمكان للسكن والاختباء من أخطار الطبيعة وحيواناتها المفترسة، وقد ترك آثاره على جوانب جدرانها التي تبدو بوضوح آثار تحسينها وتشذيبها، بالإضافة إلى تحسين و بناء مداخلها بالحجر. ثم خرج إلى المحيط فبنى البيوت الدائرية بالكتل البازلتية الضخمة ذات السقف المنخفض والمدخل الوحيد حيث عثرنا على نموذج منها إلى الغرب من الموقع الحالي بحوالي 800 م عند منحدر الوادي الشمالي وهو يعود من حيث الطراز إلى الألف الثالث قبل الميلاد.
لم تكن المغاور والكهوف السبب الوحيد في سكن الموقع. بل تُشَكِّل المياه وككل المواقع الحافز للاستيطان البشري بالقرب منها، فالوادي الموسمي الغزير ذات السرير العريض الذي يمكن استغلاله بالزراعات الصيفية والآبار الطبيعية العميقة المتفجرة في قعر الوادي والتي لا تجف. كانت العامل الأساسي في استقطاب البشر واستقرارهم.
تتألف القرية من بيوت طابقية تصل إلى طابقين في معظمها أو ثلاثة، فالطابق السفلي عبارة عن زرائب للماشية تكثر فيها المعالف والكوّات والطابق الثاني أو الثالث- إن وجد- استخدم للسكن، فكان للمنزل باب وحيد مؤلف من درفة حجرية أو اثنتين يتجه غالبا نحو الشرق أو الجنوب أي باتجاه الانحدار الصخري. تعود القرية الحالية إلى العصر النبطي و قد استنتجنا ذلك من خلال مظاهر وأسلوب البناء وتأمين المياه وطرائق جرها واستصلاح مساحات الأراضي القابلة للزراعة في سرير الوادي و تقسيمات الأراضي والحدود بينها وتجميع الرجوم الصغيرة والجلالي حيث نلاحظ بوضوح مثل هذه التقسيمات إلى الشرق من الطريق الواصل إلى الموقع. يدور جدل كبير بين علماء الآثار الغربيين والسوريين حول التأريخ الأساسي للموقع .. حيث يصرِّ العلماء الغربيون على أن الموقع قد تأسس في العصر الروماني وليس قبل ذلك، رغم أننا قدمنا حججاً وبراهيناً على الأساس النبطي لأكثر الأبنية، خاصة عثورنا على كسر فخارية تؤرخ في هذا الزمن، ومنها عدد من الكسر الفخارية المعروفة من هذا العصر والتي استوردت من اليونان في ذلك العصر. إضافة إلى استنباط الماء من تلك الآبار المثيرة، والتي ما زال بعضها يخزن الماء حتى يومنا، وتنتشر مثل هذه الآبار ذات الأبواب الضيقة المشكَّلة من إطار بازلتي في كل المواقع النبطية الجنوبية إلى جانب المنازل الطابقية ذات الدرج الداخلي وهو طراز نبطي بلا شك. أضف إلى ذلك مداخل المغاور والكهوف التي بنيت بالحجر المنحوت وسدت بدرفة حجرية منحوتة استغلها البشر كمستودعات وزرائب ثم استغلها الرومان فيما بعد كمقر لحامية الجيش الروماني الذي تولى حماية تخوم البادية الشرقية في الولاية العربية الرومانية، فأضافوا إلى المساكن الأقدم التي حسنوها الحصن.
آثار الألف الثالث قبل الميلاد:
ترقى أقدم الآثار في الموقع إلى عصور البرونز (3100-1200ق.م) مما يثبت قدم الموقع وتأسيسه في وقت مبكر جداً، فقد عثرنا على أطلال منزل ذو مسقط دائري الشكل مبني من كتل بازلتية محلية كبيرة غير مشذبة أو موجهة إنما منتقاة بعناية لتتلائم مع الوظيفة المعمارية للمنزل.
بني المنزل على كتف الوادي الشمالي في نقطة مرتفعة تشرف على الوادي من علِ وتراقب كل ما يتحرك في سريره ينفتح بابه المنخفض على شكل السنم نحو الجنوب (نحو الوادي) مؤلف من حجرين كبيرين جانبيين يعلوهما الساكف الضخم وليس للباب درفة حجرية لتسده.
يؤدي الباب إلى داخل المنزل المؤلف من حجريتين كبيرتين سقفهما محمول على عمود مركزي وميازين وأظفار جدارية جانبية ويتألف السقف من ربدات بازلتية كبيرة وثقيلة.
تعرّض المنزل للحفر السري والتخريب من الداخل مما أدى إلى انهيار سقفه ليتعذر الدخول إليه. ينتمي هذا النموذج إلى نماذج مساكن عصور البرونز في السويداء والتي تنتشر في اللجاة والهبارية والإمباشي وأم رواق وغيرها وهي ذات مسقط دائري لها مدخل وحيد غير محدد الاتجاه على شكل سنم منخفض جداً يضطر المرء للانحناء الشديد ليتمكن من الدخول إلى المنزل.
آثار العصر النبطي:
رغم أن الآثار الظاهرة في الموقع تعود إلى العصر الروماني والإسلامي، إلا أننا نعتقد أن الموقع أو الأبنية الموجودة فيه تعود إلى العصر النبطي (السويات الدنيا غير الظاهرة) حيث استغلتها الحامية الرومانية التي احتلت القرية لتبني فوقها منشآت جديدة وعلى نفس الطراز وبنفس مواد البناء مع إجراء بعض الترميم والصيانة لأخرى منها، ووجود الدرج المغروس في الجدار ما هو إلا دليل على الأصل النبطي للموقع حيث اتخذه الرومان من بعدهم كأسلوب للوصول إلى الطوابق العليا. أضف إلى ذلك أن الأنباط في المنطقة عمدوا وفي كل المواقع التي أسسوها إلى تحسين الكهوف والمغاور لاستخدامها للسكن إلى جانب اكتشاف مقبرة منحوتة غربي الموقع بقليل بنيت حسب الطراز النبطي المعروف في الجنوب وهي تشبه مقبرة الغارية والسويداء... ومن جانب آخر تثبت الكسر الفخارية الملتقطة من سطح الموقع من نوع الفخار المعروف من العصر الهلنستي/النبطي المصقول الناعم والملوّن أن الموقع قد سكن في هذا العصر، إلى جانب آبار المياه الجوفية التي شكلت العامل الأول في الاستقرار في الموقع وهي موجود في سرير الوادي أحيطت فوهاتها بحجارة بازلتية مستطيلة وغطيت ببلاطة مربعة الشكل تأخذ شكل فوهة البئر وهي تشكل أقدم الآثار في الموقع مما يثبت أن الموقع أسس قبل العهد الروماني أيضاً.
آثار العصر الروماني:
إلى الشمال من المنازل المذكورة يقوم الحصن المعروف محليا باسم (سور الدياثة) وهو حصن دفاعي للحامية الرومانية أسس في هذه المرحلة بغية حماية التخوم الشرقية للبادية التابعة للولاية العربية الرومانية كما ذكرنا، وهو مؤلف من سور دفاعي مرتفع وسميك تدعمه أبراج دفاعية عالية على الزوايا الركنية الأربعة. وبرجين يتوسطان الضلعين الطويلين في الغرب والشرق، وبرجين عاليين يحميان البوابة الشمالية الرئيسية والتي تفضي إلى منازل القرية القديمة. على جانبيها من الداخل يقوم درج داخلي غرست درجاته في بطانة الجدار الداخلي. يقابله من جهة الشمال داخل السور غرف الجنود. يتخللها باب للخارج يتم الدخول عبره إلى الحصن عبر ممر متعرج ذو زوايا حادة كالمتاهة. ويلحق بالحصن من الخارج عند الجهة الغربية غرف إضافية يبدو أنها إسطبلات لخيول الحامية العسكرية. ومثلها من جهة الشرق ولكنها غير ملاصقة للسور.
المدافن: تكثر المدافن الأرضية إلى الشمال الغربي، والشمال، والشرق من القرية وهي معظمها منحوتة بشكل دقيق وأخرى مبنية من حجارة موجهة ومشذبة لها مدخل وحيد من الشرق يفضي إلى بهو مركزي تتوزع المعازب حوله. وهذه المدافن تعاصر تاريخيا كل المراحل الزمنية للخربة الأثرية.
إلى الغرب من الموقع اكتشفت وعن طريق التنقيب السري المقبرة المنحوتة المؤلفة من باحة مركزية تحيطها من الجانبين الطولانين المعازب وينفتح بابها نحو الشمال الشرقي.
آثار العصر الإسلامي:
استمر السكن في الموقع دون انقطاع منذ تأسيسه حتى اليوم وتحول إلى قرية للفلاحين دون أي صفة عسكرية بعد رحيل الرومان عنه، واستغل الإنسان المساكن وقام بتأهيلها لتصلح كزرائب ومستودعات في الطابق الأرضي ومساكن في الطوابق العليا وبقي من آثار العصور اللاحقة للعصر الروماني مطاحن حبوب تعود للعصور الإسلامية (الأيوبية والمملوكية) وتنتشر في سرير الوادي وهي مبان حجرية عادية بدون عناية في التفاصيل، إلى جانب المزاريع وهي بقع سهلية قليلة المساحة كانت تستثمر في المزروعات المروية الموسمية.
المطاحن و الأقنية المائية :
بنيت عند حافتي الوادي من الجنوب والشمال وفي وسط الوادي قنوات مائية تجر الماء إلى مطاحن الحبوب التي تعمل بقوة الماء. وتعود بقاياها الحالية للعصرين الروماني والإسلامي. إلى جانب الآبار القديمة التي حفرت في العهد النبطي واستمر استخدامها إلى زمن قريب.
يعد هذا الموقع الأهم من بين كل المواقع الأثرية في جنوب بلاد الشام، من حيث التكامل المعماري والتسلسل التاريخي الذي يغطي معظم العصور التاريخية للمنطقة، ونظم جر المياه واستغلالها.. والحفظ المميز لآثاره رغم التعديات المتعددة التي لا يخلُ منها موقع أثري، والتي تدفعنا إلى العمل بجد لتأهيل هذا الموقع بعد حمايته وترميمه واستكمال الدراسات حوله لأن يكون موقعا سياحيا هاما على الخارطة السياحية للمحافظة يستقطب الوفود السياحية الداخلية والخارجية ويشكل رافدا هاما للاقتصاد المحلي لسكان المنطقة.