تأتي أحداث الربيع العربي في إطار النزعة الإمبراطورية التي انتشرت لدى العديد من المنظرين والمفكرين في الولايات المتحدة الأمكيركية، والتي نمت باضطراد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بتغذية من بعض المهووسين من الإدارة الأميركية ومنظريها الحالمين بإقامة إمبراطورية أميركية تسيطر على العالم.
ومما لاشك فيه أن هذه النزعة قديمة انعكست من خلال نظريات جيوبولتيكية تفرش الطرق للهيمنة على العالم كالنظريات" البحرية" و"القارية" و"المحيط والأطراف" والتي ترجمت على أرض الواقع بالحربين العالمتين ومئات الحروب الصغيرة والحرب الباردة، وصولاً إلى الوقت الحاضر حيث لا زالت النزعة الإمبراطورية تتأجج في أذهان القادة الأميركيين بالرغم من تغير المعطيات والوقائع وظهور قوى جديدةـ قديمة على الساحة الدولية.
ومن المعروف أن من يصر على تبني هذه النزعة هم مسئولي الإدارة الأميركية، الذين يجري تعيينهم بتزكية من مافيات المال وتهريب المخدرات والأسلحة وتبييض الأموال، والتي يتم التخطيط لها في كواليس البيت الأبيض، ويعد البنك الفيدرالي الأميركي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومركز التجارة الدولي وغيره من المؤسسات المالية والاقتصادية أدوات تنفيذية لها، إضافة للذراع العسكري المؤلف من الجيش الأميركي والصهيوني وحلف الناتو وجيوش الدول التابعة وعصابات المرتزقة التابعة لوكالة الاستخبارات الأميركية والموساد وغيره، حيث تهدف هذه المنظومة للمحافظة على النظام المالي والاقتصادي الدولي " الدولاري" لصالح هذه المافيات العابرة للقارات التي تدغدغ أحلام الشعب الأميركي بأحلام السيطرة والتفوق لتغطية أطماعها الخاصة.
ويرى العديد من المحللين أن افتعال حرب الخليج الأولى بين إيران و العراق، ومن ثم شن الثانية والثالثة ضد العراق.. يأتي في إطار هذا الهوس الإمبراطوري وكذلك تدخل الولايات المتحدة في البلقان وأفريقيا وجنوب شرق آسيا ووسطها وغيرها من المناطق سواء التدخل العسكري المباشر أو غير المباشر أو الاقتصادي عبر افتعال الأزمات الاقتصادية وغيرها يأتي في إطار هوس للسيطرة على العالم.
كما أسلفنا فإن أحداث الربيع العربي ومشروع الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة وربيع الحرية والديمقراطية العربي وغيرها من و"صفات" خلاص الشعب العربي، لم تكن ولن تكون إلا في إطار الإصرار الأميركي على الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط متجاوزة الوقائع والمعطيات لاسيما وجود دول قوية وشعوب قادرة على المقاومة، ما يعكس شرخ عميق بين المنطق العلمي الموضوعي والممارسة العملية الأميركية.
العقبة السورية
شهدت السنوات الثلاثة الماضية تخبطاً أميركياً في إدارة واستثمار مواردها السياسية والعسكرية في أحداث الربيع العربي فبعد النجاحات " الثورية " التي تحققت في ليبيا وتونس واليمن ومصر اصطدمت بالعقدة الأهم المتمثلة بالدولة السورية حيث تبين للرئيس أوباما أن قدرة الجماعات الإرهابية " المعتدلة" على إنجاز مشروع الهيمنة الأميركي في المنطقة مجرد أحلام "فنتازية" وأنه كرئيس أقوى دولة في الكون يقف عاجزاً عن الوفاء بوعوده التي قطعها مراراً وتكرارًا مع زعماء "شلة" أعداء سورية لدحر الدولة السورية وإسقاط رمزية قيادتها، ناهيك عن التهكم الذي ناله حينما عجز عن قصف سورية بقول السيد بشار الجعفري ممثل سورية الدائم في الأمم المتحدة " الرئيس أوباما وكاميرون صعدا أعلى الشجرة ولا يعرفان كيفية النزول" وغيرها من الوقائع التي كشفت الوهم الذي تعيش به الإمبراطورية وأن دولة صغيرة تساوي أقل من عشرة بالمئة من عدد سكانها ومساحة أقل من ولاية متوسطة من ولاياتها يمكن، باستخدام الجدية السياسية والاستقلالية والإرادة الحرة ودعم الحلفاء، أن تقف حجر عثرة وعقبة حقيقية بوجه مخططاتها المتعوب عليها منذ الثمانينات والمعدة في غرف الاستخبارات والمراكز البحثية مثل أكاديمية التغيير، ومؤسسة صناعة الانقسام، والصندوق الوطني الأميركي للديمقراطية وغيرها من الجهات المعنية بصناعة الإمبراطورية الأميركية المستفردة بمقدرات العالم وبعقول تعتبر كبيرة مثل جين شارب وبريجنسكي وصموئيل هنتغون وهنري كيسنجر وغيرهم.
إلا أن الإدارة الأميركية كما يبدو لم تأخذ بعبر الواقع التي قد تكون أكثر فائدة من نتائج أعظم مراكز البحث واستمرت في ممارساتها التي تنم عن عدم إدراك الواقع، واستمرت في اعتمادها على الاستهلاك الفكري والعملي، ما فتح باب الفشل السياسي الذي سيلاحق خطا الإدارة المرتبكة في القرن الحادي والعشرين.
حصان "داعش"
إذا كان حصان طروادة خدعة انطلت على اليونانيين بسبب تشتتهم وسوء رأي عقلائهم فإنه من المستحيل على الشعب السوري المتماسك والحكيم أن يقع في هذه الخدعة لاسيما أن تجربة حصان طالبان في أفغانستان قبل نحو عقد من الزمن لازالت ماثلة في أذهان السوريين، وبالتالي فإن الجواب لماذا زرعت الولايات المتحدة "داعش" في أرض الشام والعراق، ولماذا تصر الآن عبر تحالف دولي لإقتلاعها هو السؤال نفسه الذي طرح عن سبب زرع الولايات المتحدة القاعدة ـ طالبان في أفغانستان، ولماذا شكلت تحالفاً دولياً لاقتلاعها؟!
تقول المصادر التاريخية أنه في عام 1995 خرجت من الحدود الباكستانية ـ الأفغانية ( أماكن السيطرة الأميركية) مجموعة من السيارات الرباعية الدفع تحمل مجموعة من الطلاب المسلحين الذين لغاية الآن يوجد تعتيم حول نشأتهم، وهؤلاء استطاعوا خلال فترة قصيرة الاستيلاء على معظم أفغانستان طاردة الفصائل الإسلامية الأخرى الحليفة للولايات المتحدة " المجاهدة ضد الحكم السوفيتي"، ليتسنى لطالبان تأسيس الإمارة الإسلامية وتنصيب عمر الملا أميراً للمؤمنين، الأمر الذي أثار وقتها عدة أسئلة عن سر تنامي قوة هذا الفصيل الذي ظهر فجأة، ومن أعطاه الضوء الأخضر ليحل بهذه السرعة مكان تلك الفصائل الخبيرة والمدربة أميركياً منذ عشرات السنين؟
وقد لا يثير الاستغراب أن نذكر في هذا السياق ما كشفته بعض المصادر[1] بإن رواتب مسؤولي حكومة طالبان كانت تدفع من قبل الولايات المتحدة لغاية 1998 ثم افتعلت طالبان فتنة أثارت عصبية مافيات النفط حين قامت بطرد شركة يونوكال النفطية " وأوكلت مشاريعها لشركة أرجنتينية وبهذا وجدت الولايات المتحدة ذريعة للتدخل في أفغانستان، وقد تم تعزيز هذه الذريعة بتفجيري مركزي التجارة الدولية المعروفة بأحداث الحادي عشر من أيلول 2001، واتهام تنظيم تنظيم القاعدة بهذا التفجير.
وقد هدفت الولايات المتحدة من هذا التدخل في أفغانستان السيطرة على القلب القاري الذي منه يؤمل أن تمر أنابيب النفط والغاز لنقل الاحتياطات الهائلة التي اكتشفت أواخر القرن الماضي في بحر قزوين، ما يشكل مركز متقدم للولايات المتحدة من الجنوب والشرق تحاصر من خلالها روسيا ودول حديقتها الخلفية " دول آسيا الوسطى" وتلعب من خلاله بأوراق قوية في النزاعات المتأزمة في هذه المنطقة.
ولاشك أن داعش اليوم تماثل في نشأتها طالبان الأمس من الدور الأميركي في نشأتها وذلك بشهادة المسؤولين الأميركيين منها كلينتون في كتابها " خيارات صعبة" الذي صدر في تموز الماضي، والذي قالت فيه: إن الولايات المتحدة كانت على وشك الاعتراف بدولة الخلافة إلا أن المعطيات المصرية قلبت الطاولة على الأميركيين في المنطقة .
ولاشك أن الدعم الأميركي يفسر سر قوة داعش وسر توسعها على حساب الفصائل الأخرى، وتمكينها من إقامة ما يسمى دولة الخلافة وتنصيبت أبو بكر البغدادي العميل الأميركي السابق خليفة على المسلمين، بالرغم من طبول الحرب ضد داعش ومن الضربات الجوية "المزيفة" التي لم تنفع في إيقاف زحف داعش إلى مدينة عين عرب بالرغم من الأرض المكشوفة حول تلك المدينة ..وما يثبت أن دولة الخلافة منشأة أميركية بقصد الاستثمار المؤقت في إطار الإستراتيجية الأميركية التي ظاهرها حرب ضد الإرهاب وحقيقتها تحقيق المصالح الأميركية النفطية والغازية في منطقة شرق الأوسط، وبالقدر نفسه تعزيز خطة الولايات المتحدة للهيمنة على مركز متقدم في المنطقة تسهم بإشعال المزيد من الأزمات البينية التي تضعف محور المقاومة السوري اللبناني العراقي الإيراني ويقوي الهيمنة الصهيونية، وبالقدر نفسه يشكل حداً بوجه المطامح الروسية والصينية الساعية لكسر التفرد الأميركي بالعالم.
فشل السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط
يأتي تورط الولايات المتحدة في أحداث الربيع العربي الموسومة بالبعد الإرهابي المتطرف، كرد انفعالي غير مدروس على تراجع مواقع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط لاسيما خلال العقد الماضي لاسيما على المحورين الإيراني و الفلسطيني.
حيث اصطدمت بمتانة ومرونة التعاطي الإيراني مع ملفات المنطقة، الملف العراقي، والملف الخليجي، والملف الفلسطيني، ما زاد من قلقها من تنامي قوة إيران الإقليمية الأمر الذي دفعها لتشكيل منظومة دعائية معادية لإيران تعتمد على مقولات مصنعة بمراكز الدعاية الصهيونية والأمريكية "كالتصدي للنفوذ الفارسي والمد الشيعي" مما يتماهى مع ضيق أفق مشيخات الخليج ويستنفر عقولهم المريضة ويضع جيوبهم الدولارية في مهب النزوات الأمير كية.
كما لا يخفى على أحد ما يشكله فشل إسرائيل بإعادة الحيوية لمحظورات الأمن القومي الصهيوني، من قلق مؤرق للأوساط الصهيونية المتحكمة بالقرار الأميركي، هذه المحظورات التي انكشفت بل أضحت واهية أمام تتابع تصليب الفعل المقاوم المدعوم سورياً لاسيما في غزة وجنوب لبنان خلال العقدين الماضيين.
هذا قدر قليل من الوقائع الصادمة التي تنامت وتجمعت خلال العقد الماضي في حساب الميزان الاستراتيجي الأمريكي الأمر الذي يجب أن يفتق العقول الأميركية المشبعة بأوهام الهيمنة الأمريكية على العودة لطريق الصواب والعمل على بناء علاقات تقوم على المصالح المتبادلة بين شعوب المنطقة، إلا أن الإدارة بدلاً من ذلك قفزت إلى الأمام وربما إلى الهاوية هذه المرة حينما افتعلت أحداث الربيع العربي لتزج من خلالها مليشيات الجيل الرابع المدربة أمريكياً والمدجنة وهابياً والمدعومة خليجياً لكسر الدولة السورية وإسقاط رمزية قيادتها خلال أكثر من ثلاثة سنوات بينت عجز الإدارة عن تحقيق أي تقدم بل بدأت تظهر اختلال الموازين لصالح الدولة السورية، ما أدى إلى استنفار الإدارة الأميركية لحلفائها، الذين أدركوا أن أهدافهم لن تتحقق فيما لو استمرت انتصارات الجيش السوري، فصعّدوا من وتيرة مساعيهم التآمرية لأخذ حصة من الكعكة السورية، واستدعوا داعش المتطرفة المستبدة دينياً من قمقم العصور الوسطى لتسجيل بعض الانتصارات المزيفة التي أتاحت لأمريكا استصدار قانون دولي يرمي من حيث الشكل لمكافحة الإرهاب ويؤمل منه بالحقيقة التدخل في سورية والعراق ولبنان بذريعة محاربة داعش حيث يصعب هنا وضع أي فيتو روسي أو صيني، وبالتالي فإن ما عجزت عنه الولايات المتحدة سياسياً خلال السنوات السابقة تأمل بتعويضه في هذا القرار الأمر الذي يفسر عدم التعاون مع الدولة السورية بالرغم من أنها الطرف الوحيد الذي كان ولايزال يحارب الإرهاب منذ أكثر من ثلاثة سنوات.
وماذا بعد .. شاهد من أهله؟!
بالنتيجة فإن استمرار الولايات المتحدة في نهجها المعادي للمنطق والحق، واستمرار نظرتها الاستعمارية بالتعاطي مع شعوب العالم شكل لها العداء المتزايد من قبل هذه الشعوب باعتراف العديد من المحللين والمنظرين الأميركيين ومنهم الكاتب والبروفيسور الأميركي بول غريغ روبرتس الذي أكد في مقال بعنوان " واشنطن تهدد العالم" أن السياسة الأميركية نجحت بتدمير سمعة الولايات المتحدة التي تحولت بنظر العالم إلى أكبر تهديد للسلام العالمي[2].
كما كشف مسح عالمي أجرته الشبكة الدولية المستقلة بالتعاون مع مؤسسة غالوب الأميركية لاستطلاعات الرأي مطلع العام الجاري أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تسعى نحو الحروب.
وكشف المسح عن وجود عداء دولي مستحكم نحو دور الولايات المتحدة الذي تلعبه بوصفها شرطي العالم، وأن الأكاذيب التي تصدر عن واشنطن تسببت في وقوع ملايين الضحايا.
بدوره الكاتب تشارلمز جونسون ذكر في كتابه "أحزان الإمبراطورية": بإن النزعة الإمبراطورية في السياسة الأمريكية، هي شكل من أشكال النظام الاستبدادي، حيث إن أميركا تنشر الديمقراطية على فوهة مدفع وأن أي شخص فرضت عليه الديمقراطية بهذة الطريقة سوف يسعى حتمًا للانتقام[3].
ويرى المؤلفأن الولايات المتحدة قد وُضعت على مسار لا يختلف عن مسار الاتحاد السوفيتي السابق في ثمانينيات القرن العشرين، فقد انهار الاتحاد السوفيتى لثلاثة أسباب رئيسية هي: التناقضات الاقتصادية الداخلية بدافع من الجمود الإيديولوجي، والتمدد الإمبراطوري، والعجز عن الإصلاح.
بعد هذا هل ستأخذ الإدارة الأميركية عبرة من الأحداث الماضية فتتخلى عن سياستها الأحادية المبنية على الاستفراد بالعالم والاستحواذ على مقدراته أم ستبقى على عهدها وتخسر المزيد من السمعة والهيبة والمصالح وهل عندها سينفعها المزيد من التورط في الربيع العربي بعد أن يدب الخريف الأميركي بمصالحها في المنطقة؟؟؟